[56 ـ 61] {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى * قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى * فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى * قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}
يخبر تعالى، أنه أرى فرعون من الآيات والعبر والقواطع، جميع أنواعها العيانية، والأفقية والنفسية، فما استقام ولا ارعوى، وإنما كذب وتولى، كذب الخبر، وتولى عن الأمر والنهي، وجعل الحق باطلا، والباطل حقا، وجادل بالباطل ليضل الناس، فقال: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ} زعم أن هذه الآيات التي أراه إياها موسى، سحر وتمويه، المقصود منها إخراجهم من أرضهم، والاستيلاء عليها، ليكون كلامه مؤثرا في قلوب قومه، فإن الطباع تميل إلى أوطانها، ويصعب عليها الخروج منها ومفارقتها.
فأخبرهم أن موسى هذا قصده، ليبغضوه، ويسعوا في محاربته، فلنأتينك بسحر مثل سحرك فأمهلنا، واجعل لنا {مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} أي: مستو علمنا وعلمك به، أو مكانا مستويا معتدلا ليتمكن من رؤية ما فيه.
فقال موسى: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} وهو عيدهم، الذي يتفرغون فيه ويقطعون شواغلهم، {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} أي: يجمعون كلهم في وقت الضحى، وإنما سأل موسى ذلك، لأن يوم الزينة ووقت الضحى فيه يحصل فيه من كثرة الاجتماع، ورؤية الأشياء على حقائقها، ما لا يحصل في غيره، {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ} أي: جميع ما يقدر عليه، مما يكيد به موسى، فأرسل في مدائنه من يحشر السحرة الماهرين في سحرهم، وكان السحر إذ ذاك، متوفرا، وعلمه علما مرغوبا فيه، فجمع خلقا كثيرا من السحرة، ثم أتى كل منهما للموعد، واجتمع الناس للموعد.
فكان الجمع حافلا، حضره الرجال والنساء، والملأ، والأشراف، والعوام، والصغار، والكبار، وحضوا الناس على الاجتماع، وقالوا للناس: {هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ* لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} فحين اجتمعوا من جميع البلدان، وعظهم موسى عليه السلام، وأقام عليهم الحجة، وقال لهم: {وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} أي: لا تنصروا ما أنتم عليه من الباطل بسحركم وتغالبون الحق، وتفترون على الله الكذب، فيستأصلكم بعذاب من عنده، ويخيب سعيكم وافتراؤكم، فلا تدركون ما تطلبون من النصر والجاه عند فرعون وملائه، ولا تسلمون من عذاب الله، وكلام الحق لا بد أن يؤثر في القلوب.
لا جرم ارتفع الخصام والنزاع بين السحرة لما سمعوا كلام موسى، وارتبكوا، ولعل من جملة نزاعهم، الاشتباه في موسى، هل هو على الحق أم لا؟ ولكن هم إلى الآن، ما تم أمرهم، ليقضي الله أمرا كان مفعولا، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} فحينئذ أسروا فيما بينهم النجوى، وأنهم يتفقون على مقالة واحدة، لينجحوا في مقالهم وفعالهم، وليتمسك الناس بدينهم، والنجوى التي أسروها فسرها بقوله: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} كمقالة فرعون السابقة، فإما أن يكون ذلك توافقا من فرعون والسحرة على هذه المقالة من غير قصد، وإما أن يكون تلقينا منه لهم مقالته، التي صمم عليها وأظهرها للناس، وزادوا على قول فرعون أن قالوا: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} أي: طريقة السحر حسدكم عليها، وأراد أن يظهر عليكم، ليكون له الفخر والصيت والشهرة، ويكون هو المقصود بهذا العلم، الذي أشغلتم زمانكم فيه، ويذهب عنكم ما كنتم تأكلون بسببه، وما يتبع ذلك من الرياسة، وهذا حض من بعضهم على بعض على الاجتهاد في مغالبته، ولهذا قالوا:
{فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} أي: أظهروه دفعة واحدة متظاهرين متساعدين فيه، متناصرين، متفقا رأيكم وكلمتكم، {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} ليكون أمكن لعملكم، وأهيب لكم في القلوب، ولئلا يترك بعضكم بعض مقدوره من العمل، واعلموا أن من أفلح اليوم ونجح وغلب غيره، فإنه المفلح الفائز، فهذا يوم له ما بعده من الأيام
فلله درهم ما أصلبهم في باطلهم، وأشدهم فيه، حيث أتوا بكل سبب، ووسيلة وممكن، ومكيدة يكيدون بها الحق، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ويظهر الحق على الباطل،.فلما تمت مكيدتهم، وانحصر مقصدهم، ولم يبق إلا العمل {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ} عصاك {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} خيروه، موهمين أنهم على جزم من ظهورهم عليه بأي: حالة كانت، فقال لهم موسى: {بَلْ أَلْقُوا} فألقوا حبالهم وعصيهم، {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} أي: إلى موسى {مِنْ سِحْرِهِمْ} البليغ {أَنَّهَا تَسْعَى} أي: أنها حيات تسعى فلما خيل إلى موسى ذلك.
{أَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} كما هو مقتضى الطبيعة البشرية، وإلا فهو جازم بوعد الله ونصره.
{قُلْنَا} له تثبيتا وتطمينا: {لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} عليهم، أي: ستعلو عليهم وتقهرهم، ويذلوا لك ويخضعوا.
{وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} أي: عصاك {تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} أي: كيدهم ومكرهم، ليس بمثمر لهم ولا ناجح، فإنه من كيد السحرة، الذين يموهون على الناس، ويلبسون الباطل، ويخيلون أنهم على الحق، فألقى موسى عصاه، فتلقفت ما صنعوا كله وأكلته، والناس ينظرون لذلك الصنيع، فعلم السحرة علما يقينا أن هذا ليس بسحر، وأنه من الله، فبادروا للإيمان.
{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجدين* قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} فوقع الحق وظهر وسطع، وبطل السحر والمكر والكيد، في ذلك المجمع العظيم.
فصارت بينة ورحمة للمؤمنين، وحجة على المعاندين فـ {قَالَ} فرعون للسحرة: {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} أي: كيف أقدمتم على الإيمان من دون مراجعة مني ولا إذن؟
استغرب ذلك منهم، لأدبهم معه، وذلهم، وانقيادهم له في كل أمر من أمورهم، وجعل هذا من ذاك.
ثم استلج فرعون في كفره وطغيانه بعد هذا البرهان، واستخف عقول قومه، وأظهر لهم أن هذه الغلبة من موسى للسحرة، ليس لأن الذي معه الحق، بل لأنه تمالأ هو والسحرة، ومكروا، ودبروا أن يخرجوا فرعون وقومه من بلادهم، فقبل قومه هذا المكر منه، وظنوه صدقا {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} مع أن هذه المقالة التي قالها، لا تدخل عقل من له أدنى مسكة من عقل ومعرفة بالواقع، فإن موسى أتى من مدين وحيدا، وحين أتى لم يجتمع بأحد من السحرة ولا غيرهم، بل بادر إلى دعوة فرعون وقومه، وأراهم الآيات، فأراد فرعون أن يعارض ما جاء به موسى فسعى ما أمكنه، وأرسل في مدائنه من يجمع له كل ساحر عليم.
فجاءوا إليه، ووعدهم الأجر والمنزلة عند الغلبة، وهم حرصوا غاية الحرص، وكادوا أشد الكيد، على غلبتهم لموسى، وكان منهم ما كان، فهل يمكن أن يتصور مع هذا أن يكونوا دبروا هم وموسى واتفقوا على ما صدر؟ هذا من أمحل المحال، ثم توعد فرعون السحرة فقال: {فلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ}
كما يفعل بالمحارب الساعي بالفساد، يقطع يده اليمنى، ورجله اليسرى، {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أي: لأجل أن تشتهروا وتختزوا، {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} يعني بزعمه هو أو الله، وأنه أشد عذابا من الله وأبقى، قلبا للحقائق، وترهيبا لمن لا عقل له.
ولهذا لما عرف السحرة الحق، ورزقهم الله من العقل ما يدركون به الحقائق، أجابوه بقولهم:
{لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} أي: لن نختارك وما وعدتنا به من الأجر والتقريب، على ما أرانا الله من الآيات البينات الدالات على أن الله هو الرب المعبود وحده، المعظم المبجل وحده، وأن ما سواه باطل، ونؤثرك على الذي فطرنا وخلقنا، هذا لا يكون {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} مما أوعدتنا به من القطع، والصلب، والعذاب.
{إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي: إنما توعدنا به غاية ما يكون في هذه الحياة الدنيا، ينقضي ويزول ولا يضرنا، بخلاف عذاب الله، لمن استمر على كفره، فإنه دائم عظيم.
وهذا كأنه جواب منهم لقوله: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} وفي هذا الكلام، من السحرة، دليل على أنه ينبغي للعاقل، أن يوازن بين لذات الدنيا، ولذات الآخرة، وبين عذاب الدنيا، وعذاب الآخرة.
{إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} أي: كفرنا ومعاصينا، فإن الإيمان مكفر للسيئات، والتوبة تجب ما قبلها، وقولهم، {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} الذي عارضنا به الحق، هذا دليل على أنهم غير مختارين في عملهم المتقدم، وإنما أكرههم فرعون إكراها.
والظاهر ـ والله أعلم ـ أن موسى لما وعظهم كما تقدم في قوله: {وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} أثر معهم، ووقع منهم موقعا كبيرا، ولهذا تنازعوا بعد هذا الكلام والموعظة، ثم إن فرعون ألزمهم ذلك، وأكرههم على المكر الذي أجروه، ولهذا تكلموا بكلامه السابق قبل إتيانهم، حيث قالوا: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا} فجروا على ما سنه لهم، وأكرههم عليه، ولعل هذه النكتة، التي قامت بقلوبهم من كراهتهم لمعارضة الحق بالباطل وفعلهم، ما فعلوا على وجه الإغماض، هي التي أثرت معهم، ورحمهم الله بسببها، ووفقهم للإيمان والتوبة، {والله خير} مما وعدتنا من الأجر والمنزلة والجاه، وأبقى ثوابا وإحسانا لا ما يقول فرعون: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} يريد أنه أشد عذابا وأبقى. وجميع ما أتى من قصص موسى مع فرعون، يذكر الله فيه إذا أتى على قصة السحرة، أن فرعون توعدهم بالقطع والصلب، ولم يذكر أنه فعل ذلك، ولم يأت في ذلك حديث صحيح، والجزم بوقوعه، أو عدمه، يتوقف على الدليل، والله أعلم بذلك وغيره، ولكن توعده إياهم بذلك مع اقتداره، دليل على وقوعه، ولأنه لو لم يقع لذكره الله، ولاتفاق الناقلين على ذلك.
[74 ـ 76] {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى}
يخبر تعالى أن من أتاه، وقدم عليه مجرما ـأي: وصفه الجرم من كل وجه، وذلك يستلزم الكفرـ واستمر على ذلك حتى مات، فإن له نار جهنم، الشديد نكالها، العظيمة أغلالها، البعيد قعرها، الأليم حرها وقرها، التي فيها من العقاب ما يذيب الأكباد والقلوب، ومن شدة ذلك أن المعذب فيها لا يموت ولا يحيا، لا يموت فيستريح، ولا يحيا حياة يتلذذ بها، وإنما حياته محشوة بعذاب القلب والروح والبدن، الذي لا يقدر قدره، ولا يفتر عنه ساعة، يستغيث فلا يغاث، ويدعو فلا يستجاب له.
نعم إذا استغاث، أغيث بماء كالمهل يشوي الوجوه، وإذا دعا، أجيب بـ {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}
ومن يأت ربه مؤمنا به مصدقا لرسله، متبعا لكتبه {قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ} الواجبة والمستحبة، {فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا} أي: المنازل العاليات، وفي الغرف المزخرفات، واللذات المتواصلات، والأنهار السارحات، والخلود الدائم، والسرور العظيم، فيما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
{وَذَلِكَ} الثواب، {جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} أي: تطهر من الشرك والكفر والفسوق والعصيان، إما أن لا يفعلها بالكلية، أو يتوب مما فعله منها، وزكى أيضا نفسه، ونماها بالإيمان والعمل الصالح، فإن للتزكية معنيين، التنقية، وإزالة الخبث، والزيادة بحصول الخير، وسميت الزكاة زكاة، لهذين الأمرين.
[77 ـ 79] {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى}
لما ظهر موسى بالبراهين على فرعون وقومه، مكث في مصر يدعوهم إلى الإسلام، ويسعى في تخليص بني إسرائيل من فرعون وعذابه، وفرعون في عتو ونفور، وأمره شديد على بني إسرائيل ويريه الله من الآيات والعبر، ما قصه الله علينا في القرآن، وبنو إسرائيل لا يقدرون أن يظهروا إيمانهم ويعلنوه، قد اتخذوا بيوتهم مساجد، وصبروا على فرعون وأذاه، فأراد الله تعالى أن ينجيهم من عدوهم، ويمكن لهم في الأرض ليعبدوه جهرا، ويقيموا أمره، فأوحى إلى نبيه موسى أن سر أو سيروا أول الليل، ليتمادوا في الأرض، وأخبره أن فرعون وقومه سيتبعونه، فخرجوا أول الليل، جميع بني إسرائيل هم ونساؤهم وذريتهم، فلما أصبح أهل مصر إذا ليس فيها منهم داع ولا مجيب، فحنق عليهم عدوهم فرعون، وأرسل في المدائن، من يجمع له الناس ويحضهم على الخروج في أثر بني إسرائيل ليوقع بهم وينفذ غيظه، والله غالب على أمره، فتكاملت جنود فرعون فسار بهم يتبع بني إسرائيل، فأتبعوهم مشرقين، {فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون} وقلقوا وخافوا، البحر أمامهم، وفرعون من ورائهم، قد امتلأ عليهم غيظا وحنقا، وموسى مطمئن القلب، ساكن البال، قد وثق بوعد ربه، فقال: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} فأوحى الله إليه أن يضرب البحر بعصاه، فضربه، فانفرق اثني عشر طريقا، وصار الماء كالجبال العالية، عن يمين الطرق ويسارها، وأيبس الله طرقهم التي انفرق عنها الماء، وأمرهم الله أن لا يخافوا من إدراك فرعون، ولا يخشوا من الغرق في البحر، فسلكوا في تلك الطرق.
فجاء فرعون وجنوده، فسلكوا وراءهم، حتى إذا تكامل قوم موسى خارجين وقوم فرعون داخلين، أمر الله البحر فالتطم عليهم، وغشيهم من اليم ما غشيهم، وغرقوا كلهم، ولم ينجح منهم أحد، وبنو إسرائيل ينظرون إلى عدوهم، قد أقر الله أعينهم بهلاكه
وهذا عاقبة الكفر والضلال، وعدم الاهتداء بهدي الله، ولهذا قال تعالى: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ} بما زين لهم من الكفر، وتهجين ما أتى به موسى، واستخفافه إياهم، وما هداهم في وقت من الأوقات، فأوردهم موارد الغي والضلال، ثم أوردهم مورد العذاب والنكال.
[80 ـ 82] {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى * وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}
يذكر تعالى بني إسرائيل منته العظيمة عليهم بإهلاك عدوهم، ومواعدته لموسى عليه السلام بجانب الطور الأيمن، لينزل عليه الكتاب، الذي فيه الأحكام الجليلة، والأخبار الجميلة، فتتم عليهم النعمة الدينية، بعد النعمة الدنيوية، ويذكر منته أيضا عليهم في التيه، بإنزال المن والسلوى، والرزق الرغد الهني الذي يحصل لهم بلا مشقة، وأنه قال لهم:
{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي: واشكروه على ما أسدى إليكم من النعم {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ} أي: في رزقه، فتستعملونه في معاصيه، وتبطرون النعمة، فإنكم إن فعلتم ذلك، حل عليكم غضبي أي: غضبت عليكم، ثم عذبتكم، {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} أي: ردى وهلك، وخاب وخسر، لأنه عدم الرضا والإحسان، وحل عليه الغضب والخسران.
ومع هذا، فالتوبة معروضة، ولو عمل العبد ما عمل من المعاصي، فلهذا قال: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ} أي: كثير المغفرة والرحمة، لمن تاب من الكفر والبدعة والفسوق، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعمل صالحا من أعمال القلب والبدن، وأقوال اللسان.
{ثُمَّ اهْتَدَى} أي: سلك الصراط المستقيم، وتابع الرسول الكريم، واقتدى بالدين القويم، فهذا يغفر الله أوزاره، ويعفو عما تقدم من ذنبه وإصراره، لأنه أتى بالسبب الأكبر، للمغفرة والرحمة، بل الأسباب كلها منحصرة في هذه الأشياء فإن التوبة تجب ما قبلها، والإيمان والإسلام يهدم ما قبله، والعمل الصالح الذي هو الحسنات، يذهب السيئات، وسلوك طرق الهداية بجميع أنواعها، من تعلم علم، وتدبر آية أو حديث، حتى يتبين له معنى من المعاني يهتدي به، ودعوة إلى دين الحق، ورد بدعة أو كفر أو ضلالة، وجهاد، وهجرة، وغير ذلك من جزئيات الهداية، كلها مكفرات للذنوب محصلات لغاية المطلوب.
[83 ـ 86] {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي}
كان الله تعالى، قد واعد موسى أن يأتيه لينزل عليه التوراة ثلاثين ليلة، فأتمها بعشر، فلما تم الميقات، بادر موسى عليه السلام إلى الحضور للموعد شوقا لربه، وحرصا على موعوده، فقال الله له: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} أي: ما الذي قدمك عليهم؟ ولم لم تصبر حتى تقدم أنت وهم؟ قال: {هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي} أي: قريبا مني، وسيصلون في أثري والذي عجلني إليك يا رب طلبا لقربك ومسارعة في رضاك، وشوقا إليك، فقال الله له: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} أي: بعبادتهم للعجل، ابتليناهم، واختبرناهم، فلم يصبروا، وحين وصلت إليهم المحنة، كفروا {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ}
{فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا} وصاغه فصار {لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا} لهم {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} فنسيه موسى، فافتتن به بنو إسرائيل، فعبدوه، ونهاهم هارون فلم ينتهوا.
فلما رجع موسى إلى قومه وهو غضبان أسف، أي: ممتلئ غيظا وحنقا وغما، قال لهم موبخا ومقبحا لفعلهم: {يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} وذلك بإنزال التوراة، {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} أي: المدة، فتطاولتم غيبتي وهي مدة قصيرة؟ هذا قول كثير من المفسرين، ويحتمل أن معناه: أفطال عليكم عهد النبوة والرسالة، فلم يكن لكم بالنبوة علم ولا أثر، واندرست آثارها، فلم تقفوا منها على خبر، فانمحت آثارها لبعد العهد بها، فعبدتم غير الله، لغلبة الجهل، وعدم العلم بآثار الرسالة؟ أي: ليس الأمر كذلك، بل النبوة بين أظهركم، والعلم قائم، والعذر غير مقبول؟ أم أردتم بفعلكم، أن يحل عليكم غضب من ربكم؟ أي: فتعرضتم لأسبابه واقتحمتم موجب عذابه، وهذا هو الواقع، {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} حين أمرتكم بالاستقامة، ووصيت بكم هارون، فلم ترقبوا غائبا، ولم تحترموا حاضرا.
[87 ـ 89] {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ *
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ * أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا}
أي: قالوا له: ما فعلنا الذي فعلنا عن تعمد منا، وملك منا لأنفسنا، ولكن السبب الداعي لذلك، أننا تأثمنا من زينة القوم التي عندنا، وكانوا فيما يذكرون استعاروا حليا كثيرا من القبط، فخرجوا وهو معهم وألقوه، وجمعوه حين ذهب موسى ليراجعوه فيه إذا رجع.
وكان السامري قد بصر يوم الغرق بأثر الرسول، فسولت له نفسه أن يأخذ قبضة من أثره، وأنه إذا ألقاها على شيء حيي، فتنة وامتحانا، فألقاها على ذلك العجل الذي صاغه بصورة عجل، فتحرك العجل، وصار له خوار وصوت، وقالوا: إن موسى ذهب يطلب ربه، وهو هاهنا فنسيه، وهذا من بلادتهم، وسخافة عقولهم، حيث رأوا هذا الغريب الذي صار له خوار، بعد أن كان جمادا، فظنوه إله الأرض والسماوات.
{أَفَلَا يَرَوْنَ} أن العجل {لَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} أي: لا يتكلم ويراجعهم ويراجعونه، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا، فالعادم للكمال والكلام والفعال لا يستحق أن يعبد وهو أنقص من عابديه، فإنهم يتكلمون ويقدرون على بعض الأشياء، من النفع والدفع، بإقدار الله لهم.